سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما منع المؤمنين من أن يستغفروا للمشركين، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول هذه الآية، فإنهم قبل نزول هذه الآية كانوا يستغفرون لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر، فلما نزلت هذه الآية خافوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين. وأيضاً فإن أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين، كانوا قد ماتوا قبل نزول هذه الآية، فوقع الخوف عليهم في قلوب المسلمين أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية، وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه. فهذا وجه حسن في النظم. وقيل: المراد إن من أول السورة إلى هذا الموضع في بيان المنع من مخالطة الكفار والمنافقين، ووجوب مباينتهم، والاحتراز عن موالاتهم، فكأنه قيل: إن الإله الرحيم الكريم كيف يليق به هذا التشديد الشديد في حق هؤلاء الكفار والمنافقين؟ فأجيب عنه بأنه تعالى لا يؤاخذ أقواماً بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه، فأما بعد أن فعل ذلك وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة. وفي قوله تعالى: {لِيُضِلَّ} وجوه:
الأول: أن المراد أنه أضله عن طريق الجنة، أي صرفه عنه ومنعه من التوجه إليه.
والثاني: قالت المعتزلة: المراد من هذا الإضلال الحكم عليهم بالضلال.
واحتجوا بقول الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم ***
وقال أبو بكر الأنباري: هذا التأويل فاسد، لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطل، لأنه لا يلزم من قولنا أكفر في الحكم صحة قولنا أضل. وليس كل موضع صح فيه فعل صح أفعل. ألا ترى أنه يجوز أن يقال كسره، ولا يجوز أن يقال أكسره، بل يجب فيه الرجوع إلى السماع.
والوجه الثالث: في تفسير الآية، وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى، حتى يكون منهم الأمر الذي به يستحق العقاب.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: حاصل الآية أنه تعالى لا يؤاخذ أحداً إلا بعد أن يبين له كون ذلك الفعل قبيحاً، ومنهياً عنه. وقرر ذلك بأنه عالم بكل المعلومات، وهو قوله: {إِنَّ الله بِكُلّ شَيء عَلِيمٌ} وبأنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله: {لَهُ مُلْكُ السموات والأرض يحي ويميت} فكان التقدير: أن من كان عالماً قادراً هكذا، لم يكن محتاجاً، والعالم القادر الغني لا يفعل القبيح والعقاب قبل البيان. وإزالة العذر قبيح، فوجب أن لا يفعله الله تعالى، فنظم الآية إنما يصح إذا فسرناها بهذا الوجه، وهذا يقتضي أنه يقبح من الله تعالى الابتداء بالعقاب وأنتم لا تقولون به.
والجواب: أن ما ذكرتموه يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين، وإزالة العذر وإزاحة العلة، وليس فيها دلالة على أنه تعالى ليس له ذلك، فسقط ما ذكرتموه في هذا الباب.
ثم قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السموات والأرض يحي ويميت} في ذكر هذا المعنى هاهنا فوائد: إحداها: أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار بين أنه له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو ناصراً لكم، فهم لا يقدرون على إضراركم.
وثانيها: أن القوم من المسلمين قالوا: لما أمرتنا بالانقطاع من الكفار، فحينئذ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا وأولادنا وإخواننا لأنه ربما كان الكثير منهم كافرين، والمراد أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم. فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم، فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم.
وثالثها: أنه تعالى لما أمر بهذه التكاليف الشاقة كأنه قال وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي وتكليفي لكوني إلهكم ولكونكم عبيداً لي.


{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)}
اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها. ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى، وصدر أيضاً عن المؤمنين نوع زلة، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات. فقال: {لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقاً شديداً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين، على ما سيجيء شرحها، وهذا يوجب الثناء، فكيف يليق بها قوله: {لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى والمهاجرين}.
والجواب من وجوه:
الأول: أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وأيضاً لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها، فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار. ولست أقول عزموا عليه، بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها. فقال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه}.
والوجه الثاني: في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل. ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفراً لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائماً مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها. فلهذا السبب قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى} الآية.
والوجه الثالث: في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى} الآية.
والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدين. وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها، ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة.
المسألة الثانية: في المراد بساعة العسرة قولان:
القول الأول: أنها مختصة بغزوة تبوك، والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جداً في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته.
قال جابر: حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد.
أما عسرة الظهر: فقال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم، وأما عسرة الزاد، فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة، وكان معهم شيء من شعير مسوس، فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة.
وأما عسرة الماء: فقال عمر: خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه.
واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة، ومن خرج فيها فهو جيش العسرة. وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والقول الثاني: قال أبو مسلم: يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى: {وَإِذَا زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] وقوله: {لَقَدِ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران: 152] الآية، والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم.
ثم قال تعالى: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} وفيه مباحث:
البحث الأول: فاعل {كَادَ} يجوز أن يكون {قُلُوبُ} والتقدير: كاد قلوب فريق منهم تزيغ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن، والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن، والمعنى: كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة.
البحث الثاني: قرأ حمزة وحفص عن عاصم {يَزِيغُ} بالياء لتقدم الفعل، والباقون بالتاء لتأنيث قلوب، وفي قراءة عبد الله {مّن بَعْدِ مَا زَاغَتِ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ}.
البحث الثالث: {كَادَ} عند بعضهم تفيد المقاربة فقط، وعند آخرين تفيد المقارية مع عدم الوقوع، فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة، واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم. فقيل: هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول، لكنه صبر واحتسب. فلذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير.
وقال الآخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة، فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفاً منه أن يكون معصية. فلذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}.
فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار؟
قلنا: فيه وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييباً لقلوبهم، ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة، والمقصود منه تعظيم شأنهم.
والوجه الثاني: أنه إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل ذلك على أن ذلك العفو عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة».
وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} يريد ازداد عنهم رضا.
والوجه الثالث: أنه قال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة، ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وهما صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب، ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة. وقيل: إحداهما للرحمة السالفة، والأخرى للمستقبلة.


{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: هذا معطوف على الآية الأولى، والتقدير: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا، والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي عليه الصلاة والسلام، كان ذلك دليلاً على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي عليه الصلاة والسلام وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك.
المسألة الثانية: إن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى: {وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين وذكروا وجوهاً: أحدها: أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف، أو حصل الرضا من الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً فيقول: بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه.
وثانيها: لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال: خلفهم الرسول.
وثالثها: أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله: {وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى.
قال كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة: قول الله تعالى في حقنا: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ليشير به إلى قوله: {وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: قرئ {خُلِّفُواْ} أي خلفوا الغازين بالمدينة، أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم، وقرأ جعفر الصادق {خالفوا} وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين.
المسألة الرابعة: هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع، وللناس في هذه القصة قولان:
القول الأول: أنهم ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الحسن: كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال: يا أرضاه ما خلفني عن رسول الله إلا أمرك، إذهبي فأنت في سبيل الله فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفعل، وكان للثاني أهل فقال: يا أهلاه ما خلفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل، والثالث: ما كان له مال ولا أهل فقال: مالي سبب إلا الضن بالحياة والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}.
والقول الثاني: وهو قول الأكثرين أنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال كعب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام: «ما الذي حبس كعباً؟» فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت: إن كراعي وزادي كان حاضراً واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك، ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت: يا رسول الله لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى والمهاجرين} وأنزل قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} فعند ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال: الله أكبر قد أنزل الله عذر أصحابنا فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم ما نزل فيهم. فقال كعب: توبني إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال: لا قلت: فنصفه قال: لا قلت: فثلثه قال: نعم واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة.
الصفة الأولى: قوله: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} قال المفسرون: معناه: أن النبي عليه الصلاة والسلام صار معرضاً عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوماً، وقيل: أكثر، ومعنى {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} تقدم تفسيره في هذه السورة.
والصفة الثانية: قوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة.
الصفة الثالثة: قوله: {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} ويقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه: أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك ومن الناس من قال معنى قوله: {وَظَنُّواْ} أي علموا كما في قوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} [البقرة: 46] والدليل عليه أنه تعالى ذكر هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء، ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
وقال آخرون: وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن الله ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة، ولما وصفهم الله بهذه الصفات الثلاث؛ قال: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه لابد هاهنا من إضمار. والتقدير: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه. تاب عليهم ثم تاب عليهم، فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك.
فإن قيل: فما معنى قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ}.
قلنا فيه وجوه:
الأول: قال أصحابنا المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} يدل على أن التوبة فعل الله وقوله: {لِيَتُوبُواْ} يدل على أنها فعل العبد، فهذا صريح قولنا، ونظيره {فَلْيَضْحَكُواْ} مع قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} وقوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} مع قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} وقوله: {هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ} مع قوله: {قُلْ سِيرُواْ} والثاني: المراد تاب الله عليهم في الماضي ليكون ذلك داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل.
والثالث: أصل التوبة الرجوع، فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك.
الرابع: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} أي ليدوموا على التوبة، ولا يراجعوا ما يبطلها.
الخامس: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة الله عليهم.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله عقلاً قالوا: لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر. ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوماً أو أكثر، ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً لما جاز ذلك.
أجاب الجبائي عنه بأن قال: يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر، لكنه يقال: أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره. وأيضاً لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة، بل كان على سبيل التشديد في التكليف.
قال القاضي: وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد، لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب، فالذي يجري عليهم، وهذه حالهم يكون في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين.
والجواب: أنا متمسكون بظاهر قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وكلمة {ثُمَّ} للتراخي، فمقتضى هذا اللفظ تأخير قبول التوبة، فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولاً عن الظاهر من غير دليل.
فإن قالوا: الموجب لهذا العدول قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ}.
قلنا: صيغة يقبل للمستقبل، وهو لا يفيد الفور أصلاً بالإجماع، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}.
واعلم أن ذكر الرحيم عقيب ذكر التواب، يدل على أن قبول التوبة لأجل محض الرحمة والكرم، لا لأجل الوجوب، وذلك يقوي قولنا في أنه لا يجب عقلاً على الله قبول التوبة.

24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31